

في لحظة فارقة من تاريخ سوريا، وبعد سنوات من الدماء والانقسام، وُقّع اليوم اتفاق بين قوات سوريا الديمقراطية (قسد) والدولة السورية، ممثلة في رئيسها أحمد الشرع، على إعادة توحيد البلاد تحت راية واحدة. خطوة كهذه، وإن بدت انتصارًا للعقل السياسي، إلا أنها تفتح الباب لتساؤلات أعمق حول مآلات هذا الاتفاق، ومدى قدرته على الصمود أمام مشاريع الهيمنة الخارجية التي وجدت في الحرب السورية بيئة خصبة لتوسيع نفوذها.
لم تكن سوريا في يوم من الأيام مجرد دولة تخضع لمنطق الجغرافيا، بل كانت دائمًا ساحة لصراع الإرادات الدولية. وفي ظل هذا الواقع، فإن أي خطوة نحو الوحدة لا بد أن تُقرأ في ضوء توازنات القوى التي تحكم الإقليم. من الواضح أن هذا الاتفاق يغلق أبواب الفتن التي أُريد لها أن تتحول إلى محرقة دائمة، لكنه في الوقت ذاته يضع القوى الكبرى أمام تحدٍّ جديد: كيف ستتعامل مع سوريا جديدة تُولد من ركام الصراع؟
الخاسر الأكبر في هذه المعادلة هو الولايات المتحدة، التي جعلت من شعار “حماية الأقليات” ذريعة لتقسيم المنطقة، ومن التدخل تحت مسمى “مكافحة الإرهاب” أداة لإعادة رسم خرائط النفوذ. واشنطن التي لطالما هندست الحروب الأهلية، تدرك أن هذا الاتفاق يسحب من يدها إحدى أهم أوراق اللعب التي استخدمتها طوال العقد الماضي. وإذا كانت السياسة الأمريكية تُبنى على موازنة القوى المتصارعة، فإن خروج سوريا من دائرة الفوضى يعني أن البيت الأبيض خسر رهانه على استمرار النزيف الداخلي كوسيلة لفرض أجنداته.
لكن في المقابل، تبقى إسرائيل اللاعب الأكثر توجسًا من هذه التحولات. فتاريخيًا، لم تكن تل أبيب ترغب في وجود سوريا قوية ومتماسكة، لأن ذلك يُعيد فتح ملفات مؤجلة، على رأسها الجولان المحتل. إسرائيل، التي استثمرت في الفوضى السورية، وجدت في تقسيم الدولة فرصة ذهبية لإبعاد شبح المواجهة، خاصة مع سعيها الحثيث لتوسيع نفوذها في الجنوب السوري. اليوم، تجد تل أبيب نفسها أمام مشهد مختلف، حيث يُعاد رسم سوريا بعيدًا عن السيناريو الذي راهنت عليه طيلة السنوات الماضية.
غير أن الرسالة الأهم، والتي يجب أن تصل إلى أبناء الطوائف التي طالما كانت هدفًا لاستراتيجية “الاحتماء بالقوة الخارجية”، هي أن الرهان على حامٍ خارجي هو رهان على سراب. فإسرائيل ليست، ولن تكون يومًا، الضامن الحقيقي لأي أقلية، بل هي قوة احتلال لا ترى في المنطقة سوى خريطة مصالحها. نتنياهو وكاتس وساعر، مهما حاولوا التودد لبعض الطوائف، سيبقون جزءًا من المشروع الصهيوني الذي لا يؤمن إلا بلغة القوة والهيمنة. أما أمريكا، التي لطالما قدمت نفسها كحامية للأقليات، فقد أثبت التاريخ أنها تتخلى عن حلفائها بمجرد انتهاء صلاحية أدوارهم. وكل من ظن يومًا أن واشنطن ستبقى حامية له، فليقرأ تاريخ سايغون وكابول ليعرف كيف تكتب الولايات المتحدة نهايات حلفائها.
التاريخ يُعلمنا أن كل إمبراطوريات القوة زالت، بينما بقيت الدول والشعوب. من راهنوا على الخارج في لحظات ضعف دولهم، وجدوا أنفسهم في النهاية مجرد أدوات استُخدمت ثم أُهملت. اليوم، أمام الدروز والشركس وغيرهم من أبناء سوريا فرصة لكتابة فصل جديد، عنوانه الانتماء للوطن لا الرهان على قوى عابرة. فالوطن هو الباقي، أما مشاريع الحماية الوهمية فإلى زوال.
لكن في السياسة، لا شيء يُحسم بالنيات الحسنة وحدها. اتفاق اليوم، رغم رمزيته، يبقى اختبارًا حقيقيًا لمدى قدرة الدولة السورية على إعادة فرض سيادتها، والتعامل بذكاء مع توازنات الداخل والخارج. فالتحديات لا تزال قائمة، بدءًا من إعادة الإعمار، وصولًا إلى تفكيك تركة الحرب، ومرورًا بإدارة العلاقة مع القوى التي ستسعى لإفشال هذا المسار.
اللحظة اليوم حاسمة، فإما أن يكون هذا الاتفاق مقدمة لنموذج وطني جديد، يُعيد للسوريين إحساسهم المشترك بالوطن، وإما أن تتحول هذه الخطوة إلى مجرد ورقة أخرى في لعبة المساومات الدولية. لكن الأكيد أن سوريا، بتاريخها وموقعها، أكبر من أن تُختزل في صراعات الوكلاء، وأبقى من أن تُفصّل وفق مقاسات الطامعين.