

شهدت مصر في عام 1919 ثورة كبيرة التحمت فيها جميع أطياف الشعب المصري، وسُمّيت بثورة 19 نسبةً إلى تاريخ انطلاقها، وأصبحت فيما بعد تُصنَّف كواحدة من أهم وأعظم الثورات السياسية والحضارية في العالم. فقد كانت تلك الثورة ملهمةً للثورات وحركات النضال العالمية، وخاصةً ثورة المهاتما غاندي في الهند.
ونجحت ثورة 1919، التي ضمّت عدة قادة امتازوا بالوطنية والقوة والحكمة والدهاء والثقافة، في فرض الإرادة المصرية الحرة على بريطانيا، مما اضطر المملكة المتحدة، بعد فشلها في إنهاء الثورة، إلى التسليم باستقلال مصر عام 1922.
وقد جاء الاستقلال على مرحلتين، ففي المرحلة الأولى استلمت الثورة المصرية، بقيادة سعد زغلول، وثيقة الاستقلال يوم 28 فبراير 1922، وفي المرحلة الثانية تأسست المملكة المصرية بقيادة الملك أحمد فؤاد الأول في 15 مارس 1922، حيث تحوّل لقبه الرسمي من “سلطان مصر” إلى “ملك مصر”.
وأفرزت ثورة 1919 نهضة اقتصادية كبيرة، أسفر عنها ظهور بنك مصر عام 1920، مما حفّز كيانات جديدة على الظهور وتوسيع أنشطتها.
وأصبح ملاك هذه الكيانات من أصحاب التوجّه نحو الرأسمالية الوطنية في مصر، ومن بينهم عدد من الرموز الهامة للحركة الاقتصادية المصرية، مثل المهندس أحمد عبود “عبود باشا”، صاحب مصانع السكر بالحوامدية ومالك أضخم أسطول نقل بحري في الشرق الأوسط خلال النصف الأول من القرن العشرين، بالإضافة إلى محمد سيد ياسين بك، المعروف بـ”ملك الزجاج”، وفرغلي باشا، الملقب بـ”ملك القطن”، وغيرهم من الأسماء المؤثرة التي تربعت على عرش الاقتصاد المصري.
وحاول بعض السياسيين والمؤرخين المنتمين إلى دولة يوليو التقليل من قيمة الاستقلال، وظلوا يرددون أن إعلان 28 فبراير 1922 كان تفضّلًا وتنازلًا من الاستعمار البريطاني، وأنّ الاحتلال ظل مستمرًا ومسيطرًا على مصر حتى قام الرئيس جمال عبد الناصر بإجلائه من البلاد. إلا أن هذا الادعاء غير صحيح، فرغم أن بعض شروط وثيقة الاستقلال أبقت على بعض القوات البريطانية في مصر، فإن ذلك لا يعني عدم الاستقلال. وحتى لو اعتبرنا أن السيادة المصرية كانت ناقصة بعض الشيء، فإن نقص السيادة لا يلغيها، ووجود قوات أجنبية محدودة في بعض المناطق لا ينفي الاستقلال، كما أن القواعد العسكرية الأمريكية في اليابان وأوروبا بعد الحرب العالمية الثانية، والتي لا تزال متواجدة حتى الآن، لم تلغِ سيادة هذه الدول.
وإذا رأى البعض أن بريطانيا قد ضغطت على مصر لقبول قواعدها، فإن الولايات المتحدة أيضًا فرضت وجودها العسكري في بعض الدول خلال فترة الحرب الباردة.
ومن نتائج إعلان استقلال مصر عام 1922 التحاق الرئيسين عبد الناصر والسادات بالكلية الحربية في زمن الاستقلال المصري، وهي الكلية التي كان من المتعذر على أبناء الطبقات الوسطى الالتحاق بها قبل الاستقلال. كما شاركت مصر، كدولة مستقلة ذات سيادة، في تأسيس الأمم المتحدة والجامعة العربية عام 1945.
وبالعودة إلى تفاصيل إعلان استقلال مصر، نجد أن الشرارة الأولى للاستقلال كانت في ديسمبر 1921، عندما وجّه الزعيم سعد زغلول نداءً إلى الأمة المصرية، قائلًا مقولته الشهيرة: “فلنثق إذن بقلوب كلها اطمئنان ونفوس ملؤها استبشار، وشعارنا الاستقلال التام أو الموت الزؤام”. وكانت نتيجة هذا النداء اعتقال سعد زغلول وخمسة من القادة السياسيين المصريين في 23 ديسمبر 1921، حيث تم نفيهم إلى “عدن”، ثم إلى جزر “سيشل”. واستمر السعي نحو الاستقلال حتى نجح رئيس وزراء مصر، عبد الخالق ثروت، في تحويل مباحثاته وتفاوضاته مع الجنرال اللنبي إلى إعلان 28 فبراير 1922، الذي تضمن مبدأً عامًا، وهو إلغاء الحماية على مصر والاعتراف بها كدولة مستقلة، وإنشاء برلمان يضم غرفتين: النواب والشيوخ، وإعادة وزارة الخارجية تحت السيطرة المصرية.
وفي 15 مارس 1922، وجّه السلطان فؤاد رسالة إلى الشعب المصري، قال فيها: “لقد منَّ الله علينا بأن جعل استقلال البلاد على يدنا، وإنا لنبتهل إلى المولى عز وجل بأخلص الشكر، وأجمل الحمد على ذلك، ونعلن على ملأ العالم أن مصر منذ اليوم دولة تتمتع بالسيادة والاستقلال، ونتخذ لنفسنا لقب (صاحب الجلالة ملك مصر)، ليكون لبلادنا ما يتفق مع استقلالها من مظاهر الشخصية الدولية وأسباب العزة القومية، وإنا ندعو المولى القدير أن يجعل هذا اليوم فاتحة عصر سعيد يعيد لمصر ذكرى ماضيها الجميل”.
وكان من أهم مظاهر هذا الاستقلال، الاستقلال الاقتصادي، الذي أصبح شكلًا من أشكال “المقاطعة” التي حققت لأبناء هذا الوطن متطلباتهم، ومكّنتهم من الاستغناء عن الوارد من الخارج. كما أن استقلال مصر فتح الباب أمام أهم دستور عرفته البلاد في عصرها الحديث، وهو دستور 1923، الذي أُسّس على أساسه أول برلمان شعبي، كان نتيجة لأول انتخابات حرة بدأت في أكتوبر 1923 وانتهت في يناير 1924، ولذلك عُرف البرلمان باسم “برلمان 1924”.
إن يوم 15 مارس من كل عام هو يوم الاستقلال في مصر، فهو نتيجة ثورة عظيمة ونضال كبير شارك فيه جموع الشعب المصري، وهو أساس الحياة الدستورية والنيابية وفترة مشرفة للدولة المصرية. لذا، يجب الاحتفال به سنويًا وعدم التمادي في تهميش ذلك اليوم العظيم.